نتكلم اليوم عن حديث قدسي يتناول أحوال القلوب البعيدة عن ربها، حديث يصف لنا ذلك الشخص الذي يظن أنه على خير وهو في الحقيقة في قلبه مرض، حتى ولو كثرت عبادته، ولو كثر بكاؤه في الصلاة، ولو كثر إنفاقة وحجُّه، فلننتبه جيدا لهذا الحديث لأن في ذلك صلاحًا لديننا ودنيانا، وأن مَن تركه وغفل عن فهم معناه يكون على خطر عظيم..
فقد ورد في صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله -عز وجل-: من ذا الذي يتألى عليَّ ألاّ أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك".. يتألى أي يتكبر ويحلف عليّ.
وهناك نص آخر خارج صحيح مسلم يشير إلى أنه كان هناك رجل ملتزم وكان كل يوم وهو ذاهب يصلي يمر على أخيه الذي يسكن بجواره، فيقول له قم لكي تصلي بالمسجد، فكان أخوه يرد عليه بأنه مشغول، فيقول له فلتصلِّ في بيتك.. وذات مرة مر عليه فقال له قم لكي تصلي معي، فرد أخوة وقال له: هذا أمر بيني وبين ربي، فلتتركني لله، أبعثك الله عليّ رقيباً أم كنت علي حسيبا؟ فقال له هذا الإنسان الملتزم: "والله لا يغفر الله لك".. فقال رب العالمين: "من ذا الذي يتألّى عليّ ألاّ أغفر، فقد غفرت لأخيك وأحبطت عملك"..
والحديث به ثلاثة أشياء سنتكلم عنها وهي:
• حكم بعضنا على البعض.. ما هي مشكلته؟
• سوء خاتمة من يتعبد ويتعالى على الناس بعبادته، ويصدر على الناس أحكاما تخرجهم عن رحمة الله..
• ماذا عن كلمة "والله لا يغفر الله لك".. فهل رحمة ربنا عاجزة عن أن تسع ذنب أحد؟!!
وبداية يا أحبائي لنعلم أن لله حكمة في أن يذنب الإنسان، ومن هذه الحكمة أنها طبيعة بشرية فكل ابن آدم خطاء.. ومن خلال الذنب يقف الإنسان على ضعفه وعجزه، فيتعرف على قوة ربه وقدرته، يقف على أبواب ذله فيتعرف على عزة ربه. ومن حكمة الذنب أن يتعرف العبد على بعض من سعة الله ومغفرته وعفوه، فلا يقنط من رحمته ولا ييأس من روحه.. "إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون".. وفي هذا يقول ابن عطاء الله: "إذا وقع منك الذنب فلا يكن سبباً ليأسك من رحمة الله فقد يكون ذلك آخر ذنب قدر عليك"..
الكلمة وقلب قائلها..
لنعلم يا أحبائي أن أي كلمة تجري على لسان إنسان فإنما تعبر عن قلب صاحبها، ولذلك يشبَِّه كثير من الصالحين اللسان بالملعقة التي تغترف من القلب، فإن كان القلب طيبا خرجت الكلمة من اللسان طيبة تطيب بها قلوب العباد، وإن كان بالقلب غلظة فإن الكلمة تخرج من اللسان عاتية متجبرة لا تترك بابا للرحمة لمن يسمعها.
ويقول سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وهو كما تعلمون ثالث الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المبشرين بالجنه: "ما أسرَّ عبد سريرة إلا أظهرها الله على وجهه أو في فلتات لسانه".. فمن في قلبه الحب ولو لم يكن ظاهرا سيظهره الله في كلمة أو لفتة، ومن كان في قلبه شيء من الكراهية والغلظة فإن الله سيظهرها مهما تعمد الإنسان إخفاءها. وما أسوأ الكلمة غير الطيبة إذا خرجت من فم ينطق بكتاب الله. فلنتق الله في كلامنا ولنعلم أنه عنوان قلوبنا ورداء أفئدتنا.
الذي قال لأخيه "والله لا يغفر الله لك"..
ما هي المشكلة في أن يقول إنسان لغيره "والله لا يغفر الله لك"؟... ونقول إن قائل هذه العبارة عنده كارثة كفيلة بطرده من رحمة الله، وهي أنه يتمثل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم يرى القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه".. أي أن من يتحدث عن الناس بتعالٍ ويصدر الأحكام عليهم يرى النقص في غيره ويتوهم الكمال في نفسه.. فينشغل بعيوبهم عن إصلاح عيبه، وذلك هو الخسران المبين.
وهناك فئتان يسيئان الظن بالآخرين أولاهما يمثلها هؤلاء الذين يسيئون الظن ببعض الملتزمين، حتى إنك تجد الواحد منهم يقول: "أنا لا أحب الملتحين المتشددين.. الذين يكفرون الناس"، أو يقول: "أنا أعرف الكثير منهم يحبون الدنيا ويقبلون عليها وأن اللحية والالتزام ستارة تداري شهواتهم وطمعهم وتجارتهم باسم الدين"..
وهؤلاء نذكرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وجدتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان".. ونذكرهم بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا"... فلنحسن الظن بمن يحتمون ببيوت الله عسى أن يقيهم الله من شرور أنفسهم.
أما الفئة الثانية فيمثلها أولئك الذين يرون أنفسهم ملتزمين بطاعة ربهم وبهدي نبيهم، والحقيقة أنني لست أدري لماذا يلجأ البعض منهم إلى أن ينظروا لبعض الناس نظرة دونية ويلقون بالتهم عليهم، وكأن القدوة برسول الله قدوة مناسك فقط وليست قدوة رأفة ورحمة.. وكأنهم نسوا قوله تعالى: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ"..
ولهذه الفئة من الناس سوف نوجه حديثنا في الحلقة التالية إن شاء الله، وسنعرض نماذج من حسن الظن بالناس وخاصة العصاة منهم كما وردت في عهد النبي والتابعين والصالحين من الأمة.
فقط أود أن أختتم حديثي هذه المرة بقول ابن عطاء الله: "لا تفرح بالطاعة لأنها برزت منك إليه لكن افرح لأنها برزت منه إليك".. أي يا أيها الطائع لا تفرح بأنك أطعت الله وكأنه عطاء منك إليه بل افرح لأن الله وفقك لطاعته وفي ذلك عين العطاء منه إليك. فأنت ما أطعت الله إلا بتوفيقه.. وكأن لسان الحكمة يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فاللهم بصرنا بعيوبنا واشغلنا بإصلاحها عن إدراك عيوب غيرنا..
اللهم وفقنا لطاعتك ولا تزدنا بها إلا محبة لك ورحمة بعبادك..
اللهم آمين